عامل النظافة ليس الأخير!

يختلف البشر في الإمكانيات والعلم والمعرفة والطاقة، وكذلك الخصائص الاجتماعية والنفسية والبدنية، فمن الطبيعي أن يكون التوزيع العادل مبني على الكفاءة، وبناءً على مقدار الجهد المبذول وقيمة العمل الذي يبذل فيه هذا الجهد، وهو ما لا يحدث في الواقع مطلقًا!

تابعنا منذ أيام واقعة تمييز طبقي جديدة، ضحيتها عامل نظافة. وعلى الرغم من يقيني بأن تلك الواقعة تحدث يوميًا للكثيرين، وليس فقط عمال النظافة، تصدرت هذه الحادثة تحديدُا مواقع التواصل الاجتماعي، وأصبحت حديث الناس ووسائل الإعلام المختلفة، بينما يمارس التمييز يشكل يومي، حتى أصبح «روتين» قد لا تلاحظه في بعض الأوقات من كثرة انتشاره.

«من أمن العقاب أساء الأدب» مقولة نسمعها ونرددها كثيرًا، وهي واقعية جدًا، وإن كنا نتحدث على عقاب لأحد أفراد الشعب الذين يمارسون تمييزًا، فماذا إذا صدر التمييز عن الأفراد المسئولين عن فرض الجزاء؟

«ابن عامل النظافة لا يمكن أن يصبح قاضيًا، أو يعمل بمجال القضاء، لأن القاضي لا بد أن يكون قد نشأ في وسط بيئي واجتماعي مناسب لهذا العمل». تصريح لوزير «العدل» عام 2015، وهو الشخص المعني بتطبيق الدستور! والغريب في الأمر أننا نعلم أن واقع التمييز يمارس بحق فئات من الشعب المصري، ولكن الجديد هو الاعتراف الوزاري بذلك!

وفي نفس السياق أذكر واقعة حدثت في عام 2004، حين أقدم الشاب المصري عبد الحميد شتا على الانتحار، بإلقاء نفسه من فوق جسر أكتوبر بالقاهرة، بعد أن طالع قائمة أسماء المقبولين لشغل وظيفة ملحق تجاري في السلك الدبلوماسي، فوجد نفسه غير مقبول، رغم تفوقه على كل منافسيه، حاصلًا على المركز الأول في كافة الاختبارات.

كان يمكن لشتا ألا يفعل ذلك، حتى ولو لم يجتاز الاختبارات، لكن الذي صدمه هو أن نتيجة الاختبارات، وهي الشيء الذي يملكه، جاءت في صالحه، ولكن مهنة والده الفلاح كانت هي سبب رفضه وتصنيفه: غير لائق اجتماعيًا.

تمارس جرائم التمييز بشكل يومي، بينما تنص المادة 53 في دستور 2014 على: «المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعى، أو الانتماء السياسى أو الجغرافى، أو لأي سبب آخر». إذًا، التمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون، وتلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض.

لم تُفعَّل مواد محاربة التمييز حتى الأن، ما يعكس معاناتنا من وجود فجوة كبيرة بين سن التشريع وتطبيقه، على الرغم من صدوره والإقرار به. فتلك المادة لم تفعل حتى الأن بسبب فقرتها الأخيرة، والتي نصت على وجود مفوضية مستقلة لمكافحة التمييز، ولم تُنشئ تلك المفوضية حتى الأن، أي بعد 8 سنوات من سَن التشريع.

في مقال لـ«الشروق» في 2017، قال جورج إسحاق إنه: «فى هذه المرحلة المحتدمة والكلام الغير مجدٍ يجب أن نفكر فى منافذ لاختراق هذا الجمود وهذا التردى فى تكرار أفكار بالية لم تعد تناسب الموقف ولا العصر، وسوف أصر على تحقيق فكرة المواطنة إلى أن تتحقق مهما كلفنى ذلك. فالدستور ينص على المواطنة فى بنده الرئيسى ويخرق هذا النص التمييز بين أبناء الوطن بكل أنواعه»، مستنكرًا عدم إنشاء مفوضية لمنع التمييز.

نستنكر بالطبع ما حدث مع عامل النظافة، ونستنكر أيضًا ما يحدث مع كل أفراد المجتمع من تمييز بشكل مستمر، ولكن بماذا يفيد الاستنكار؟! فكم استنكرنا وشجبنا التعدي على المسجد الأقصى وما زال محتلًا!

إن كنا نريد أن نساعد تلك الفئات التي يمارس ضدها التمييز فلنضع الشعارات جانبًا، ونسعى لمعاقبة من يمارسون التمييز ضدهم، وخصوصًا أن هناك فرصة أن يطرح هذا القانون مرة أخرى من خلال القوى المدنية المشاركة في الحوار المجتمعي، هذا إن كنا نريد حلًا.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة