معاناة الأسيرات الفلسطينيات بعيون مي المصري

محمد عيسى

هي حكاية من ضمن آلاف الحكايات التي تبلور معاناة الأسيرات الفلسطينيات القابعات في سجون الاحتلال الإسرائيلي، حكاية تعود أحداثها إلى بداية الثلث الأخير من القرن العشرين، نقلت لنا عبر فيلم درامي للمخرجة الفلسطينية مي المصري، بدأت أحداثه في سيارة «جيب» إسرائيلية كانت تقل المدرسة الفلسطينية “ليال”، مرتدية ملابس نومها، مقيدة اليدين ومعصوبة العينين، إلى أحد السجون الإسرائيلية بالضفة الغربية المحتلة.

استقبلت إدارة السجن ليال بسيل من الإهانات – التي ربما تكون لا تذكر أمام ما تواجهه الأسيرات في دنيا الواقع- وذلك قبل أن يزج بها وهي معلقة من يديها بعد انتهاء التحقيق في زنزانة مع سجينات إسرائيليات، تعرضت فيها لإهانات تتجاوز في بشاعتها ما نالته من إدارة السجن، التي زجت بها خصيصًا في هذه الزنزانة لتكديرها.

لم يقتصر التنكيل بليال على حرمانها من المكان الشاغر في زنزانة الأسيرات العربيات، حيث منعتها إدارة السجن من الاتصال بزوجها، وهو ما لم يحدث إلا بعد مساومتها على السماح لها بالتواصل معه مقابل الوشاية بزميلاتها. وبالرغم من السماح لزوجها بزيارتها بعد قبولها للاتفاق، ذهبت محاولات إدارة السجن في تدجينها هباءً، حيث كشفتها سجينة إسرائيلية مدمنة، وهي تأخذ أحد الأدوات الممنوعة المستخدمة في التعاطي من على أرضية الزنزانة، وتمخض عن هذه الواقعة اشتباك بدني بين السجينة الإسرائيلية وليال، التي امتنعت عن إعطائها الأداة، وانفض الاشتباك بعد تدخل السجانة مستخدمة اتهام السجينة المدمنة لدلال بتهريب رسائل للسجينات الفلسطينيات كذريعة لمزيد من التنكيل بها، وقررت وضعها بزنزانة انفرادية.

فور انتهاء فترة تكديرها الانفرادي، نقلت ليال إلى زنزانة العربيات، اللاتي استقبلنها بحفاوة لا بأس بها، ولم يعكر صفو الأجواء سوى نظرات الشك في عيني “سناء” المناضلة اللبنانية، والتي ظنت طيلة الوقت أن ليال عميلة لإدارة السجن، وزاد هذا الشك في إحدى المرات لدرجة دفعت سناء لتهديدها بأنها ستجز رقبتها بأداة حادة إذا لم تخبرها عن طبيعة علاقتها بإدارة السجن، ما حدث بعد تفتيش مفاجئ للزنزانة من السجانة التي كانت تتحين كل وأي فرصة للتنكيل بهن، خصوصًا بالشابة الفلسطينية “جميلة” صاحبة الروح الجميلة المتشبعة بالثورة على ظلم الاحتلال الصهيوني بصورة عامة، وعلى تعسف إدارة السجن معهن بصورة خاصة.

ازداد الوضع سوءًا بعد معرفة ليال بحملها الذي لم يكن على البال أو الخاطر بالنسبة لها ولمأمورة السجن التي سعت بشتى الطرق إلى إقناعها بالإجهاض، ما يعد طبيعيًّا بالنسبة لقاتلي الأطفال، لكن ما لم يكن طبيعيًّا هو محاولة زوج ليال هو الآخر إقناعها بإجهاض الحمل، بدعوى عدم ملائمة الظروف الحالية، في الوقت الذي أصرت فيه ليال على استكمال حملها، ووضعت بالفعل ابنها الأول، نور، بين أروقة السجن.

صورت أحداث الفيلم مشاهد إنسانية رائعة، أبرزها إنقاذ ليال للسجينة الإسرائيلية المدمنة التي تشاجرت معها في السابق، وهي على بعد خطوات من الموت، ما لفت انتباه الإسرائيلية التي نشأت بعد ذلك بينها وبين ليال علاقة صداقة غير مفهومة، دفعتها إلى مساعدة ليال وأخريات في أكثر من مناسبة، ما أثار غضب إحدى السجينات الإسرائيليات فحاولت تعكير الأجواء، لاسيما عندما شاهدت صديقتها وهي تشارك السجينات العربيات بالغناء، أثناء احتفالهن بالعام الثاني لميلاد نور.

قدم لنا الفيلم صورة راقية لمهنة المحاماة، تمثلت في دفاع محامية إسرائيلية عن ليال، على الرغم من الضغوطات التي كانت تتعرض لها من قبل مأمورة السجن، وتذكيرها الدائم لها بمقتل ابنها على أيادي عربية، هذا الدفاع الذي لم يتوج بالنجاح لرفض ليال المشاركة في ظلم الصبي الفلسطيني الذي نقلته بسيارتها وهو جريح، فكانت مغبة صلابتها وإحقاقها للحق الحكم عليها بثمانِ سنوات.

جسد هذا الفيلم أيضًا نضال الأسيرات الفلسطينيات، وتشابكهن مع الأحداث الجارية خارج أسوار السجن، فبمجرد معرفتهن عن الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني دخلن في إضراب مفتوح، ترتب عليه مزيد من التنكيل بالطبع، وتم فصلهن في زنازين انفرادية لفترة محدودة، فيما تصاعد الإضراب عند معرفتهن بما حدث في صبرا وشاتيلا، من خلال صحيفة تمكنت السجينة المدمنة من تمريرها لهن خلسة من مكتب المأمورة، ووصلت ذروته عند استشهاد السجينة الفلسطينية جميلة برصاص جندي إسرائيلي، في خضم عراك نشب بين اللبنانية سناء وسجينة أخرى أصبحت عميلة لإدارة السجن، بسبب الضغوطات الممارسة عليها من ناحية، واشتياقها لأبنائها من ناحية أخرى.

أخيرًا دخلت الفرحة إلى قلوب السجينات العربيات بعد إدراج أسماء عدد منهن في قائمة المفرج عنهن، بمقتضى اتفاقية لتبادل للأسرى بين المقاومة والاحتلال، إلا أن اسم ليال لم يكن ضمنهن، فلم تعد إلى أحضان أمها، أو ابنها نور الذي سلب منها بعد رفضها فك الإضراب مقابل الإبقاء عليه بين أحضانها، وقضت عقوبتها الظالمة كاملة.

كانت هذه نهاية حكاية واحدة من الأسيرات الفلسطينيات التي قبعت لسنوات في سجون الاحتلال على خلفية اتهامات ملفقة، ودلال ليست استثناء، حيث يوجد على غرارها الكثير من الأسيرات اللاتي تتعرضن لانتهاكات مريعة تفوق ما تعرضت له ليال في الفيلم، الذي نقل لنا مسحة بسيطة من معاناتهن. عاش كفاح الشعب الفلسطيني.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة