ثقة زائفة.. وظلم وظلمات

مي مجدي

في تلك اللحظة ومنذ مدة ليست ببعيدة اعتدت على شعور هادئ وبرئ، شعور لا يتخلله أي غصة تجاه أي شيء على الإطلاق، قبل ذلك الوقت بساعات كان قلبي كعادته يدق بشدة، وروحي كأنها في حقبة زمنية آخري، كنت مشتتة ومبعثرة وكأنني طفل ضل السبيل تماما، فقبضة القلب هذه أعرفها تمام المعرفة، وذلك الشعور أدركه حتي أكاد أن ألمسه، وأخيرا استقر بي الحال إلى أن أطلق العنان لفضولي – غير المعتاد- للهواتف الملعونة.

في مساء هذا اليوم كنا نتبادل الأخبار والأحاديث، ليقع على سمعي اسم لزميلة جديدة له في العمل، وفجأة دار الكلام حولها، وأنا أشعر به وأعرفه حتى النخاع، فهو لا يبادلني الحديث عن إحداهن إلا إذا كان هناك شغفا واهتماما بالغا، لم أشعر بالغيرة أبدا، استمعت وعقلي في أمر ومكان آخر.

وفي سلوك بعيد كل البعد عني، أخذت هاتفه الموصول بالشاحن، وأدخلت كلمة السر التي أعرفها، وهي كلمة عادية ومعلومة طيلة الوقت، تاركة حمل التفكير في اقتحام خصوصيته، وغير مكترثة بالأصوات التي تثرثر في عقلي عن الصواب والخطأ، لأنتهي أنا وشعوري وحيرتي وغصة قلبي للنتيجة نفسها، الكذب.

مكالمات لدقائق، وأخرى متتالية بينه وبين “زميلة العمل” تصل مدتها للساعة، عدت بذاكرتي لأقارن الأحاديث بيننا وقتها، كان قد أخبرني أنه ذاهب لشراء بعض الأغراض وسداد الإيجار. ومن سكون وعقل هادئ وقلب راضي لأيام وشهور قررت فيها المسامحة واللين مع شخص يخذلني كلما وضعت ثقتي فيه، إلى تلك اللحظة التي توقف فيها عقلي وقلبي لبرهة، ثم عاد ليزفر التنهيدة التي يخرجها في كل مرة يتعرض فيها للخيانة، فهل هي صفعة وخيبة جديدة تضاف لسجل خيباتي؟ أم صافرة إنذار من الله يخبرني عبرها بأن الثقة لا نهبها لغيره، وأن معاني الصدق في مشاعرنا وبراح صدورنا في الحب ثقة زائفه لأنها لغيره؟! وتباً لنفسي الهزيلة التي تخسر معارك الصدق والثقة، وتأبى أن تتعلم!

لكن رست السفينة في مينائها هذا المرة، واستوعبت حتمية عدم التعلق سوى باللحظة التي ندرك فيها تفاهة الأشياء والأشخاص، ونشعر بعظمة الله في هبته لقلة من الناس بالقدرة على الإحساس بالأشياء تجاه الأشخاص وقت وقبل حدوثها، ليخبرنا بأنه يرى بواطن القلوب وظواهرها.

ألهاني الحديث عن فعل اعتدته وشعور أراد السيطرة علي، ولكنني تفوقت عليه هذه المرة، وأخيرا أدركت وتداركت أن زوال المشاعر الحميمية لا يأخذ وقت، لأن خيانة النفس تذهبها فور وقوعها.

لا أعلم لماذا الآن بالذات خطر على ذهني مشهد وكأنني أراه أمام عيني من خلف أسوار الظلم والظلمات: شرفة طويلة وعريضة كانت بمثابة “منشرا” لغسيل السجينات غير العاديات، بمعنى آخر منشر خاص بـ”نبطشية” العنبر، ولا يمكن لسجينة عادية أن تضع ملابسها عليه، إلا التابعات لها وقليل من السجناء الـ VIP، ممن تدفعن خراطيش وأموال أكثر من غيرهن، فكما يحدث في حياة الحرية، داخل السجن أيضا يوجد مساكين وأغنياء، فإذا أغضب منظر الملابس النبطشية يعلو صوتها للتابعات أن ينتزعن جميع ملابسهن، ويبقين فقط ملابسها عليه، فتأخذ الضعيفات ملابسهن وتضعنها على مواسير الحمامات، أو مناشر خصصت لهن داخل كل “باكية”، أو على حوامل الأسرة.

كانت تلك نافذتي ومتنفسي الوحيد الذي أنظر منها وأنا أجلس على سريري – الموازي بعض الشيء وليس مقابل مباشرة- لأرى السماء محجوبة ببسيط من الأشجار والملابس المعلقة، وأترك روحي وعيني تذهبان إلى حيث يجلس أهلي وأحبتي، وكأنني أجلس معهم، بعد أن أرتمي في أحضانهم، غير مدركة أنه مجرد خيالي المزدحم بالحب والحرية، “الساعة دلوقتي 11″، تصيح فتاه وتكرر بأعلى صوتها، لتغلق ستار اليوم وتنهيه بجملة: “تمام النوم يا جماعة يلا كل واحد في مكانه وعلى سريره”.

كنت أنتظر هذه اللحظة أم كانت هي التي تنتظرني؟ لا جدوى غير أنها تحدث كل يوم، وأتذكر بالأخص في كل نصف شهر عربي، عندما يكون البدر في تمام اكتماله، قوي الضوء ساطع الوضوح واللمعة، فيسرقني بالنظر فيه، وكأن الله يخترق جميع أجزاء قلبي ليضع به الأمل الكبير لأيامي وأوقاتي ولحظاتي العصيبة، فالحِمل لم يكن في حَملي، ولكن على قلبي وأكتافي، وكنت أحتضنه كصغيري الذي ذاق معي أيام الظلم داخل جدران الظلمات.

لن ينسيني الحديث أن أخبركم أن النافذة كانت مطلة على ساحة صغيرة ومغلقة تسمى ب”التروض”، وهي كلمة سجن قديمة كقدم جدرانه ومألوفة السماع هناك، ولكن هي في الأصل “تريُّض”، أي ساحة واسعة للمشي أو الجري أو مسامرة الغير، وعلى العكس تماما، كانت ساحتنا مغلقة بباب خشبي، فيها الكثير من النساء تغسلن وتطهين، وأي براح هذا والنفس سجينة؟!

حتى هذه اللحظة لا أعلم لماذا وكيف حدث كل هذا؟ وكيف لي أن أتحمل وأصبر علي سجن 365 يوما؟ ومن أين أتيت بقوة الأبطال وشجاعة الصابرين لأجد نفسي الآن جالسة على أريكة في بلد غريب لا أجد الراحة فيه؟! ولكن عناية الله دائمة الاتصال بعباده تذكرنا دائما بأننا لسنا بيوسف الذي سُجن ظلما، ولسنا بيونس الذي مكث في بطن الحوت في ظلمات البحر، ولكننا بشر عاديين كيف لرب الناس أن ينسانا كما لم ينسى من قبل سوانا؟

فيا رب هب لنا نفوس راضية، وثقة بك غير زائفة، وباعد بيننا وبين الظلم والظلمات كما باعدت بين السماء والأرض.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة