بين الاختيار والانهيار حلم ضائع

معاذ الشرقاوي

يقول أهل الأثر أنه من لم يدرس التاريخ لم يدرك حلو الحياة من مرها، وأنه من عرف التاريخ أضاف إلى عمره أعمارًا، وأعطى لعقله فرصًا فكرية جديدة مبنية على معرفة جادة بتجارب الإنسان السابق له عبر الأزمان والظروف. ونظريًا جرى العرف في كتابة التاريخ أن تتوفر المادة العلمية الجادة حول حدث ما، حتى يشرع الكتابة فيه، ولما كان من الصعب في عالمنا أن يكتب تاريخ حدث ما في وقت وجود أبطاله موجودين ومسيطرين على الساحة، حيث تندر الوثائق الرسمية التي هي قطب المادة التاريخية، فحدد المؤرخين خمسون عامًا تالية للحدث حتى يكتب عنه فيكون ذلك تاريخًا.

تلك المدة التي يستطيعون فيها قراءة الحدث من زوايا بعيدة وقريبة، غير متأثرين بوجود البطل أو زواله، كما تكون عاملًا قويًا في تخمُر الرؤية المبنية على ملاحظة متجردة للنواتج والتغيرات السياسية والاجتماعية التي تبعت ذلك الحدث، باعتبار أن التاريخ هو دراسة الأحداث التي مر بها الإنسان وأثرت في حياته وتشكيل رؤيته للواقع الذي مر به.

لكن ربما أنه تغير ذلك، أو لنقل أنه ربما غاب عنا أن ذلك قد تغير؛ حيث وجدنا الشاشات ترسم لنا صورة ناطقة عن أحداث واقعية مررنا نحن بها وليس من سبقنا، على أنها تاريخ، فنظريًا هو ليس تاريخ، وواقعيًا فهو محاولة لعرض صورة محددة عن أحداث وقعت؛ لكنها صورة من زاوية واحدة، أو من اتجاه واحد.

على أي ما يكون فإنه قد حدث، ولن ننشغل بالفروقات الأكاديمية حول إن كان هو تاريخًا أو قراءة حاضرة للحدث، لكننا سننقل لكم أن كان هناك جيل حلم بالتغير الذي هو سنة كونية في كل مكونات الكون من حولنا، وشارك في كل فاعليات ذلك التغير التي وقعت على مدار ثلاثة أعوام، وظل يناضل من أجل قضيته التي هل الوطن، فقط الوطن، بنى حلمه على رغبته في تحقيق العدل والمساواة وتكافؤ الفرص الحقيقي بين الجميع في إطار الدولة والقانون. اعتصم في التحرير وناضل في باقي الشوارع والميادين، رافعًا قضيته، معليًا من رغبته في تحقيق معنى الوطن واقعيًا وليس نظريًا، ونزف في ذلك دماءً زكية من شريانه النابض بالحرية والحياة الهانئة المستقرة، وفي عز نضاله وجد الإخوان الذين هم كانوا التيار الغالب على المشهد آنذاك أن الجيش هو ضمان لانتقال السلطة، لا نعلم ماذا حدث وما دفعهم لذلك لكن هذا ما حدث.

عاش الوطن أيامًا مريرة، يُخون فيها الناس بعضهم البعض، وتمزقت روابط الشارع، وكادت البلاد نفسها أن تتمزق، وانفتحت علينا أبواقًا متنوعة وكلها متباينة، والكل يقول أنه يتكلم باسم الوطن ومن أجل الوطن، فخلقوا مناخًا من الخلاف، وزاد الطينة بِلة أن تشرعن الإخوان وأصبح منهم الرئيس، فسادوا في الأرض الفساد، وتحول الخلاف إلى صدام بين أبناء الوطن، وبُث الخوف، فالجميع أصبح خائف، فالقانون الذي هو الإطار الذي لا بد أن تتحاكم إليه الأفكار والأيدلوجيات والرؤى والذي يحافظ على التناغم العام أصبح هو والعدم سواء، فاستُبدل برؤية مكتب الإرشاد، فلم يعين الإخوان الإرشاد وصيًا على الثورة فقط، بل وصيًا على الوطن، ذلك المعنى الذي لا يعرفوه فليس في منهجهم وطن بل أستاذية شمولية رجعية.

ظهرت أصواتًا جديدة تنادي بالتغيير من أجل الوطن ـ أيضًا ـ وتُخوفُ من فاشية الدين، وتجدد الدعوة إلى ضرورة أن يكون القانون في الإطار الذي يتحاكم إليه الجميع، فسمعنا منهم أيضًا أن الجيش ضمانة لانتقال السلطة، لكننا خرجنا ضد فاشية “يا نحكمكم يا نموتكم”، انتصرنا عليهم لأننا خرجنا من أجل الوطن، من أجل المعنى السامي للوطن الذي هو ملاذ المواطن ومكان بناء حضارته وتقدمه، وتطورت الأحداث حتى فوجئنا بحال جديد كلية فكل شيء أصبح كأنه موجود، فالقانون كأنه موجود وكذا وكذا، وتصدرت فاشية جديدة تحتكر الوطنية لنفسها، وعنوانها أن الأمن القومي في خطر، وأننا لا ندرك ماذا يعني الوطن.

ربما نكون فشلنا من منظور الجميع في معرفة معنى الوطن، لكننا أبدًا لم نفشل في أن نعرف معنى المواطن الذي هو أساس الوطن، وحقه في أن يكون واعي فاهم ناشط وليس قاصرًا يحتاج عقله إلى وصي؛ تارة وصي بحلية دينية وتارة أخرى بحلية وطنية، فبين الاختيار والانهيار لابد أن نقول ما قاله أحمد مطر: نموت نموت ويحيا الوطن؛ يحيا لمن!! نحن الوطن؛ ومن بعدنا يبقى التراب والعفن ..

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة