من السياسة ترك السياسة.. سيرة التحولات لدى السلفيين في مصر( 2-2)

كريم فرحات

برزت الدعوة السلفية في الإسكندرية، سبعينات القرن الماضي، والتي ترافقت وصعود ما عرف بـ”الصحوة الإسلامية”، بوجه عام، والطفرة النفطية التي ساهمت بواسطة الإمكانيات المادية من نشر الأفكار السلفية في نسختها الوهابية السعودية. وبين عامي 1972 و1977، دشن مجموعة من الطلبة المنتمين، وقتذاك، الجماعة الإسلامية النواة الجنينية الأولى للمدرسة السلفية، ومنهم الشيخ محمد إسماعيل المقدم وسعيد عبد العظيم وياسر برهامي، في كلية الطب بجامعة الإسكندرية، الأمر الذي عززته كذلك رحلات الحج والعمرة التي توافرت بسهولة وسخاء شديدن في ذلك الوقت لقيادات الجماعة الاسلامية وآخرين من الطلبة.

وفي الفترة ما بين شهر رمضان وموسم الحج، كان يمكث بعض قيادات الجماعة وآخرين لجهة حضور دروس مشايخ المملكة ونقل كتب وأفكار ابن باز والعثيميين في ساحات العمل الطلابي، وكذا توزيع كتيبات مجانية عليهم تحمل عبارة “يهدى ولا يباع”، فضلاً عن مطالعة كتب التراث. كل ذلك فتح جيباً مثّل أحد روافد الفكر الوهابي والسلفي بالقاهرة. وعدّ مشايخ الوهابية هؤلاء الشباب امتداداً لهم.

سبق الشيخ محمد إسماعيل المقدم زملائه للمنهج السلفي، إذ انتمى إلى جمعية أنصار السنة المحمدية، ستينات القرن الماضي. وبالتالي، اصطدم بتوغل فكر جماعة الإخوان الذي بدأ يتمدد على الجماعة الإسلامية وهيمنة منهجهم على السلفية، الأمر الذي خلق تنافساً محموماً بين الطرفين للسيطرة على المجال العام الديني. فكانت نقطة الميلاد الجديدة، بين جامعي عمر بن الخطاب في مدينة الإسكندرية (درس يوم الخميس)، وعباد الرحمن في منطقة بلوكلي (درس يوم الجمعة)، حيث يتناول فيهما المناهج السلفية من بعض كتب التراث مثل “العقيدة الطحاوية” و”تحفة الأطفال” و”مدارج السالكين”. وفرض ذلك الصراع/ التنافس عدة مواقف متناقضة بعضها مستتر والبعض الآخر معلن. فرفض السلفيون البيعة لمرشد الجماعة وكان وقتها عمر التلمساني الذي تولى شؤون الدعوة بعد رحيل المستشار حسن الهضيبي، لكن التلمساني ظل مجهولاً ولم يعلن عن توليه منصب المرشد العام لبعض الوقت. ووقعت عدة صدامات بينهما لم تخل على كل حال من وجود خشية من سيطرة الجماعة وانفرادها بالعمل الدعوي. وهذه النقطة على وجه التحديد مفتاحية لفهم انخراط السلفيين غمار العمل السياسي إبان الخامس والعشرين من يناير 2011.

ودأب السلفيون على شن الهجوم ضد الإخوان باعتبارهم وضعوا الدين في هامش ضيق ومحدود بغرض الحصول على مكاسب سياسية وانتخابية، نفعية ومؤقتة. ومن بين تلك القضايا المثيرة بين الطرفين هي ولاية المسيحي؛ حيث رفض السلفيون عضوية السلفي في مجلس النواب، أو ترشحه للرئاسة، وكذلك ولاية المرأة. وفي المقابل شهدت مواقف الإخوان، الانتهازية والبراغماتية، مرونة في ذلك. وثمة موقف آخر يتصل بإيران، والأخير كان من بين أبرز الخلافات التي تصدعت معها العلاقة بين السلفيين والإخوان في مرحلة حكم محمد مرسي في مصر.

والشئ بالشئ يذكر، أنه ثمة تقارب سلفي إخواني على مستوى الأفكار والتنظيم لا يمكن بحال تجاوزه، حيث زحف الفقه السلفي إلى العقل الإخواني، وذلك مع صعود الفكر القطبي نهايات الستينات، والذي حل بديلاً عن كتب المناهج الصوفية المقررة في مناهج الجماعة، مثل، الحكم العطائية لابن عطاء الله السكندري، ورسالة المسترشدين للحارث المحاسبي، والأنوار المحمدية للنبهاني. وتم تمرير بعض الكتب السلفية مثل “زاد المعاد” و”معارج القبول” لابن القيم. وهي المرحلة التي شهدت هجرة العقل الاخواني لبلاد الخليج والسعودية في فترة الحكم الناصري والملاحقات الأمنية، بما شهدته من محن وقعت معها اعتقالات واسعة، وإعدام سيد قطب ثم حل التنظيم في نهاية المطاف، الأمر الذي ترتب عليه ظهور ما وصفه المفكر الإسلامي حسام تمام “تسلف الإخوان”، وانعكاسها على الجماعة حركياً.

منتصف الثمانينات، أجهضت الدعوة السلفية نفسها من رحم الجماعة الإسلامية وقطعت الحبل السري الموصول بينهما، وبدأ العمل بشكل مستقل خارج مداراتها. ثم بدأت مرحلة الانتشار والتوسع دون قيود بمفردها، وأسست معهد الفرقان لإعداد الدعاة عام 1986، مقره الإسكندرية، وهي أول مدرسة سلفية تعمل على تخريج دعاة. وعمل الدعاة السلفيون على وضع وضبط المناهج المقررة فيها، وقد ألحقته الدولة بوزارة الأوقاف عام 1994، باعتبارها محاولة لتقييد نفوذ السلفيين والخشية من توسعاتهم، حيث تحولت لمحطة لافتة ورئيسية لكل طلاب العلم الشرعي، حتى من خريجي الأزهر، بينما انتشر الدعاة من هذا المعهد في كافة أقاليم ومحافظات مصر. فيما ظهرت مجلة “صوت الدعوة”، وهي لسان حال الدعوة السلفية، وكانت تطبع شهرياً لنشر الوعي بالفكر السلفي.

ينضم إلى الفضاء السلفي بمصر السلفية العلمية وهي مدرسة كبيرة، تلك التي تنتمي إليها المدرسة السلفية بالإسكندرية ويبرز فيها اسم الشيخ ياسر برهامي وبعض الدعاة المعروفين مثل أبي إسحق الحويني ومحمد حسان ومحمد حسين يعقوب، ويعتبر الشيخ الألباني المرجعية الأولى لهم وتتبع الخط الوهابي في السعودية، إذ تلقى بعضهم العلم من الألباني مباشرة كالحويني مثلاً. وتعد القضية الرئيسة في فكر ودعوة الألباني هي “التوحيد” وتحقيقه قبل الحلم بتأسيس الدولة والتشديد على عدم خوض غمار السياسة، ومخالفة كل الجماعات الإسلامية في ذلك، وعدم استعجال النتائج كحال التيارات السلفية الجهادية. كما أن صلاح الأمة لديه يسبق صلاح الدولة، وهو ما يتوافق مع منهج “التربية واالتصفية”.

وهناك السلفية المدخلية، وهي سلفية تنسب إلى الشيخ الحبشي محمد أمان الله الجامي، وكان يدرس في المسجد النبوي بينما عاش في المملكة العربية السعودية فترة كمدرس ثم أستاذ في جامعة المدينة المنورة، وخلف فيها تياره المعروف نسبة إلى اسمه “الجامية”. ومن الأسماء التي التحقت بالجامية أو المدخلية في مصر الشيخ سعيد رسلان ومحمود عامر وأسامة القوصي، ومن أبرز مبادئها والتي تثير عليها انتقادات جمة رفضها الخروج على الحاكم، أي حاكم، والطاعة التامة لولي الأمر، ويعد تيار المدخلية قد أثار موقفاً خطيراً عام 2010 تزعمه الشيخ محمود عامر بإصدار فتوى تهدر دم المعارض المصري وقتذاك محمد البرادعي الذي قاد مبادرة للتغيير ضد الرئيس السابق حسني مبارك، بدعوى أنه “يثير الفتن ويدعو الشعب إلى العصيان”.

قبل الربيع العربي، لم يسجل التاريخ مشاركة سياسية للسلفيين في السياسة أو الحراك الاجتماعي الذي بدأ منذ عام 2004، وتصاعد في السنوات التي أعقبت ذلك التاريخ، فلم يشارك أي منهم في وقفات إحتجاجية ضد الغزو الأنجلو أمريكي عام 2003 أو في أحداث الاعتداء على غزة 2005 والاجتياح الاسرائيلي على لبنان عام 2006، كما لم تشارك في كيانات سياسية للضغط المجتمعي مثل حركة 6 إبريل وكفاية.

ومن بين المعضلات التي خلقت صراعات محمومة داخل التيار السلفي بعد انخراطه السياسي وتحديداً حزب النور، كانت مسألة الاختلاط بين الدعوي والسياسي، وتأثير السياسة على الدين، الأمر الذي تسبب في تصدعات عنيفة وحدوث فجوة بين القيادات والقواعد السلفية. وخاص إسماعيل المقدم وياسر برهامي صراعاً في هذا الشأن، وقال الأول: “إذا كنا محصورين بين خيارين إما حراسة الدين أو خوض السياسة، فلن نقبل إلا خياراً واحداً” في إشارة صريحة للدعوة. وهو ما سبب بعد ذلك تصدع وإنشقاق داخل الحزب الذراع السياسية للدعوة السلفية، وقد نجم عنه إزاحة المقدم وتقدم برهامي للقيادة وانفراده بها في إنقلاب ناعم، غير أنه ترك ندوباً وآثاراً عميقة تنظيماً وفكريا.

وتشكل الجبهة السلفية أحد الأضلاع التي تكونت بعد ثورة يناير وضمت مجموعة واسعة من الجماعات السلفية، تتفق على ضرورة العمل السياسي، وتلك نقطة الارتكاز التي تجمعها مع الدعوة السلفية؛ فهي تنتمي للسلفية الحركية بالقاهرة وأبرز شيوخها محمد عبد المقصود. ويمثلها سياسياً حزب الأصالة والفضيلة. وكانت الجبهة مصدراً مهماً في دعم حملة حازم صلاح أبو إسماعيل وتأييد مواقفه وحضور فعالياته. كما دخلت الجبهة السلفية على خط المواجهة مع الأقباط في ظل الأزمات والتوترات الطائفية التي حدثت بعد الثورة، مثل حادث ماسبيرو، حيث طرحت الجبهة خطاباً طائفياً تحريضياً فيما اعتبرت الأحداث وقتها بمثابة “استفزاز مستمر لجموع المسلمين الغفيرة”.

نجح التيار السلفي بشكل، مؤقت وتكتيكي، تحويل رأسماله الاجتماعي والدعوي، إلى رأسمال سياسي، حقق من خلاله نسبة فوز وصلت لنحو 24% من مقاعد مجلس الشعب، واحتل المرتبة الثانية، بعد حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسية لجماعة الاخوان المسلمين، بالرغم حداثة عهده بالسياسة وضعف خبراته التنظيمية مقارنة بالأخوان. وكانت الرؤية السياسية محل خلاف داخل حزب النور منذ سبتمبر 2012، حيث تبنت جبهة عبد الغفور أن يعمل الحزب لصالح تمثيل كافة القوى الإسلامية السلفية بوجه عام، فيما أصرت الجبهة المضادة التي تزعمها جلال المرة وأشرف ثابت، أن يشحذ الحزب قاعدته ونفوذه الشعبي من مرجعية دينية واحدة متمثلة في الدعوة السلفية بالإسكندرية. وتسببت الأزمة في خصومة وعداء متبادلين وانتهي الصراع باستقالة عبد الغفور وتاسيس حزب جديد.

واقع الحال، يكشف عن صراع خفي ومستتر في هذه الأزمة التي طوقت التيار السلفي، تبدو أبعد من الظاهر والمعلن، وتحديداً ما يتصل بتنحية الشيخ عبد الغفور القسرية عن الحزب، فلم تكن شخصيته مريحة لمشايخ الدعوة السلفية، من حيث إدارته للحزب باستقلالية، بعيداً عن نفوذ الدعوة السلفية ومرجعيتها وحضورها الرسمي باعتبار الأخيرة هي الأصل. كما لا تبدو من وجهة نظرهم، شخصية عبد الغفور هي التي يمكنها التعاطي مع شروط المرحلة، من ناحية أخرى، والتوافق على الآليات بمرونة، حيث ظلت الدعوة تفرض رؤيتها الدينية على الحزب والتدخل في شؤونه الداخلية. وهو ما يبعث في الذاكرة وقائع مماثلة مما جرى مع الناطق الرسمي باسم حزب النور محمد يسري سلامة، بعد أن أشاد بالروائي المصري نجيب محفوظ، والذي تقوم بتكفيره التيارات السلفية، ما تسبب بتدخل الدعوة السلفية وإحالته للتحقيق في هيئة تابعة للدعوة وليس الحزب، وانتهت باستقالته بعد رفضه للتحقيق.

ولم تكن تلك السيرة التي تبرز تناقضات جمّة في فصولها المتفاوتة بعد أن سجلت انخراط السلفيين في العمل السياسي، في حدوده الإجرائية والشكلية، دون أي انفتاح على الأفكار المدنية والديمقراطية والأدبيات السياسية، سوى انعكاس للسيولة السياسية، وبالتالي، لم تنجح استجابتهم للحراك المجتمعي من مراجعة أدبياتهم وحدوث انزياحات فكرية، ومن ثم، بناء خيال سياسي يتسق مع مبادئ الدولة الحديثة ويفض النزاع بين الفضاء العام والخاص داخل الدولة وتعيين موقع الشريعة فيها.

ورغم القبول الشكلي بالإجراءات الديمقراطية، لكن ظلت قيادات سلفية تحاول إيجاد صيغة أو مقاربة للحكم الإسلامي، وقد طالب عبد المنعم الشحات، أثناء انعقاد البرلمان عام 2011، بينما كان يشغل منصب المتحدث الرسمي باسم الدعوة السلفية بالاسكندرية، ضرورة تدشين “مجلس فقهي”، على غرار نظام الحكم في إيران في نسخته الخمينية، وبمرجعيتها “الولي الفقيه”. وبالتالي، تكون تلك الهيئة الدينية الجهة المسؤولة عن تحديد صلاحية القوانين والإجراءات السياسية من الناحية الفقهية.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة