رواية ثانية لحرب واحدة

أحمد عابدين

في صباح يوم 24 فبراير الماضي، اقتحمت الدبابات الروسية حدود جارتها أوكرانيا، وعلى مدار أيام قليلة تحولت مناظر الحضارة والجمال التي كانت تملأ الشوارع إلى ركام ومبانٍ مهدمة وجثث وأشلاء، وبلغ عدد الضحايا -حتى كتابة المقال -قرابة 300 مدني، وتحولت الحدود إلى مراكز للمآسي الإنسانية وإغاثة اللاجئين والفارين والمهجّرين.

لم يستطع العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وقف هذا العدوان الغاشم الوحشي بالقوة العسكرية المباشرة، خشية الدخول في صدام نووي سيؤدي حتماً إلى فناء الكوكب، وكل ما أمكنه فعله هو تقديم الدعم العسكري والمالي لأوكرانيا المكلومة، وفرض عقوبات شديدة عزلة دولية على المعتدي: اقتصادية، وسياسية، ودبلوماسية، وثقافية، ورياضية، وإعلامية، في محاولة لإعادته إلى رشده. هذه هي الرواية (الوحيدة) التي يجب أن نصدقها ونؤمن بها ونرددها وننشرها ونعيد نشرها. لكن للأسف هذه ليست الرواية الوحيدة.

في 19 مارس 2003 اقتحمت الطائرات الأمريكية أجواء دولة العراق، قبل ساعات من اقتحام الدبابات لحدودها البرية، وعلى مدار أكثر من شهر استمر القصف والتدمير لكل ما طالته ذخيرة الجيش الأمريكي من بشر ومباني ومنشآت، ومتاحف ومدارس ومستشفيات. وقد جاء العدوان من واشنطن وبعض حلفائها منفردين من دون أدنى سند دولي (بالضبط كالغزو الروسي الأخير) بعد فشل الولايات المتحدة في استصدار قرار من مجلس الأمن بالتدخل الدولي العسكري في بغداد.

بعد الغزو أقامت أمريكا احتلالاً عسكرياً عينت خلاله أحد جنرالاتها حاكماً على البلاد، لتنهي سيادة الشعب في وطنه وعلى أرضه، وخلال قرابة عشرين عام من الاحتلال والفوضى والعنف التي أحدثها الغزو وتبعاته، أُزهقت أرواح أكثر من مليوني عراقي، وشُرد أكثر من 5 ملايين في الداخل والخارج، بجانب مئات الآلاف من المعتقلين والمغيبين والمعذبين، وأصبحت دولة مهدمة تعاني من كافة أشكال الانهيار، لكن لم يجرؤ أحد على فرض أية عقوبات على المعتدي أو نبذه وحصاره. 

بدأ الفصل الحالي من الترتيب العالمي للقوة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، حيث تم إنشاء الأمم المتحدة بهدف منع اندلاع حرب كونية أخرى، وحفظ السلام والأمن في العالم، وهي المهمة التي عُهدت إلى مجلس الأمن الذي يتحكم به الدول الكبرى المنتصرة في الحرب، وخلال العقود التي تلت ذلك، تحول هذا المجلس إلى طاولة بيزنس تحافظ بشكل أساسي على مصالح هؤلاء الأعضاء الخمسة، حيث أصبحت إحدى ساحات فرض إرادتهم لتحقيق أقصى استفادة لهم ولحلفائهم وشركائهم، وصارت أهداف المنظمة الرئيسية من حل المشاكل الدولية وتعزيز احترام حقوق الانسان وحفظ السلم والأمن وإنماء العلاقات الودية بين الأمم مرهونة بشرط ألا تتعارض مع مصالح الدول الكبرى -كل حسب قوته وضعف خصمه، وعلى الرغم من النجاح النسبي للعمل الدولي والأممي طوال تلك الفترة، إلا أنا كان عصياً على الإصلاح، لاستناد أعضائه في بقاء هيمنتهم على القوة الاقتصادية والعسكرية، وخاصة الأسلحة النووية والذرية، القادرة على تهديد الحياة فوق كوكب الأرض.

وخلال تلك العقود التي تلت تأسيس المنظمة الأممية، وخاصة بعد الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، استقر العالم على نظام القطب الواحد، بوجود امبراطورية مهيمنة بقيادة الطرف الثاني (واشنطن)، بعد انهيار الطرف الأول وتفككه، وقد عملت الإمبراطورية الأمريكية على بقاء هذا الوضع بكل الطرق الممكنة، بما فيها محاولات تعطيل نمو بعض القوى مثل الصين، أو تشديد الخناق على روسيا لإعادتها كدولة فقيرة ضعيفة، والتي لولا حيازتها للسلاح النووي لكنا رأيناها مهدمة، ولكانت موسكو نسخة مكررة من بغداد بعد تدميرها بالطائرات الأمريكية.

وخلال أيام الغزو الروسي لأوكرانيا، ارتفعت الشعارات الإنسانية فوق المنابر الدولية وعلى شفاه قادة العالم الغربي، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة التي تصدر خطابها الحديث عن حقوق الإنسان ومأساة الشعب الأوكراني، وعلى الرغم من حقيقة جرم روسيا بغزوها لأوكرانيا وانتهاك سيادتها، وخطيئتها في حق ملايين الأوكران، إلا إن الإنسانية المزعومة من واشنطن وحلفائها كانت أكذب من أن يصدقها أحد، خاصة وأن تلك الشعارات والخطب التي تقطر رحمة وشفقة وعطف وإنسانية تتأتي بالتزامن مع مساندة ودعم كامل لإسرائيل في احتلالها للأراضي الفلسطينية، وقمع وقهر وقتل وإبادة الشعب الفلسطيني ونهب أراضيه وتشريد الملايين من أبنائه في شتات العالم، مع استيراد أشخاص آخرين ليستولوا على تلك الأرض والحقوق بمزاعم ودعاوى خيالية، فيما لم ينقطع المدد والإمداد من هذه الحكومات الغربية لتل أبيب بأحدث الأسلحة الفتاكة والمتطورة، بل ومحاربة وتجريم فضح وحشيتها.

وخلال هذه الأيام القليلة، تجلت ملامح النفاق العالمي في أوضح صوره، فرأينا دول العالم المتحضر التي لطالما دافعت عن حرية الصحافة وهي تحجب القنوات والمواقع الروسية وتفرض روايتها الإعلامية فرضاً، وبعد سنوات من مكافحة الأخبار الكاذبة والشائعات امتلأت الصفحات والمواقع بالتدليس والكذب، وبعد عقود من تسفيه دعوات ومحاولات مواجهة الاحتلال الإسرائيلي بالمقاطعة الثقافية والرياضية تحت شعارات “لا لإقحام السياسة في الرياضة والفن والثقافة….”، تسابقت الدول والمنظمات حول العالم بقرارات استبعاد ومقاطعة روسيا ثقافياً وفنياً ورياضياً وعلى كافة الأصعدة.

ولكن، وسط كل هذا، يبقى السؤال الأهم والأخطر هو “أين نقف ونحن ننتقد ذلك النفاق؟”

إن كل ما سلف ليس دفاعاً عن الإجرام الروسي، ولا دعاية أو ترويجاً لبديل روسي/صيني في مواجهة نظام أمريكي/غربي، فأنا لست هنا في معرض الدعاية لقوى ديكتاتورية قمعية لا تؤمن بالحريات ولا بالحقوق، وإنما على العكس تماماَ، إنني أنتقد النظام الغربي أملاً في إصلاحه بمزيد من الحرية والديمقراطية وإعلاء قيم حقوق الإنسان، وعلى رأس كل هذا أن تصبح حقوق جميع الشعوب على درجة واحدة من المساواة في الأهمية، ومواجهة نظرة الرجل الأبيض إلى الشعوب المقهورة في فلسطين والعراق وسوريا وأفغانستان وغيرها، تلك الدول التي فضحت بعض الألسنة الغربية نظرتهم العنصرية نحوهم وعقيدتهم بأنهم أقل منهم ومن حلفائهم في الحق والحرية والكرامة، أو بمعنى أصح أنا لست أدعو إلى استبدال النفاق بالقمع الصريح، ولكن بالحرية والحق للجميع.

ولقد كانت – ولا تزال -الدعاية الأكبر والأهم للدول والنظم القمعية في العالم هي الكيل بمكيالين، الذي لطالما اتبعته الدول الغربية تجاه حقوق الشعوب وحرياتها، وتقديم المصالح على المبادئ والقيم، والأرباح على الأرواح. لذا فلزاماً علينا أن تكون دعواتنا لإصلاح الخلل ومواطن العطب في آليات الديمقراطية، والتي هي وقود التدافع نحو البديل الأكثر سوءً

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة