من السياسة ترك السياسة.. سيرة التحولات لدى السلفيين في مصر  (1-2)

كريم فرحات

مثّلت “الجبهة السلفية” العتبة التنظيمية الأولى التي عبرت من خلالها التيارات السلفية إلى عوالم السياسة، والمشاركة في فعالياتها المختلفة، في خضم سنوات الربيع العربي، بعد أن كان السائد من آراء (فقهية) داخل مدوناتها وأدبياتها تحريم المشاركة في أي نشاط يمت بصلة من السياسة، وتأثيم الاقتراب أو الاشتغال بها، بيد أن بيان التأسيس الذي صدر على المنصات السلفية، وخرج بعنوان: “كلمة حق”، حمل مضمونه أدلة شرعية مغايرة لجواز المشاركة في المظاهرات التي عمت البلاد آنذاك. ودخلت الجبهة السلفية على خط المواجهة مع الأقباط في ظل الأزمات والتوترات الطائفية التي حدثت في تلك الفترة، حيث عمدت الجبهة إلى التحريض ضد الأقباط، ووصفت المتظاهرين بلغة أقلوية، في بيان رسمي لها وصفتهم بـ”قلة متطرفة”، وطالبت بالتصدي لهم بحسم، وطورت صيغة الخطاب لمنحى آخر عبر مواجهة مباشرة، حصرتها في صراع ديني إسلامي مسيحي، واعتبرت الأحداث وقتها “استفزاز مستمر لجموع المسلمين الغفيرة”.

الحركة السلفية المصرية من أجل الإصلاح (حفص)، تعد أولى الحركات السياسية السلفية، التي أعلنت عن ظهورها في العام 2010، أي قبل اندلاع الربيع العربي، في نسخته المصرية بعام، وقام بتأسيسها رضا أحمد صمدي، تايلاندي الجنسية، وقد كان من بين المنتمين للمدرسة السلفية بالإسكندرية، حيث جاء إلى مصر، العام 1986، وحصل على بكالوريوس الشريعة والقانون، من جامعة الازهر، لكن الأجهزة الأمنية في مصر، رصدت نشاطه الدعوي والتحريضي في داخل الأزهر، العام 1995، وقامت بطرده فأكمل تعليمه في المغرب، في جامعة القرويين، واستقر في بانكوك.

وبعد عام 2011، أكدت “حفص” أنها لن تشارك في العملية السياسية، لكنها ستتناول الشأن السياسي، من دون الانخراط في المعارك الانتخابية. فيما أكدت أنها سوف “تمثل الخط العلمي والدعوي الإسلامي، الذي يؤيد أي تحرك سياسي أو عسكري يمهد لتحقيق أهداف الحركة مع المحافظة على الثوابت الشرعية”. وقدموا وقتذاك خطة لمشاركة السلفيين في العملية السياسية، من خلال العمل الشعبي والخدمي والدخول في الانتخابات المحلية والنقابية والعمالية، بدلاً من الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وهي صيغة أو بالأحرى مناورة تكتيكية أقرب للتحرك الناعم الذي كان يعتمد الإخوان بانتهازية وبراجماتية شديدة. وقد اعتبروا أن ذلك سيجعل بمقدورهم الحصول قاعدة شعبية وجماهيرية، فضلاً عن المعرفة المباشرة بالقضايا التي تمس المواطنين والمساهمة في حلها، والاحتكاك المباشر بالجماهير والتعريف ببرامجهم.

لم تنل “حفص” القبول من الدعوة السلفية بالإسكندرية، منذ بيان تأسيسها الأول، وإعلانها خوض العمل السياسي، في الوقت الذي كان السلفيون يعتمدون مقولة: “من السياسة ترك السياسة”، بينما كانت الحركة ترفع شعار التغيير والإصلاح الشامل.  لكن الشيخ ياسر برهامي، نائب رئيس الدعوة السلفية، تبنى موقفاً رافضاً لهم، في ما يتصل بطرحهم السياسي، حيث كان يرفض تسيس الدعوة السلفية، ويلح على رفض الدعوة إلى العمل السياسي.

كما أعلن برهامي عدم معرفته بأفراد الحركة، وحصر علمه فقط بشخص المؤسس الذي يعتبره من “الأخوة القدامي”، بحسب تعبيره، والذي كان ينشط معهم في الدعوة قبل سفره إلى تايلاند، منذ خمسة عشر عاماً، كما ذكر واستطرد في حديث له باقتضاب على موقع “أنا السلفي”: “نحن نحب الشيخ رضا (يقصد رضا الصمدي) لكن نختلف معه كثيراً”.

وألمح الباحث الفرنسي في شؤون الحركات الإسلامية، ستيفان لاكروا، بخصوص التناقضات أو الثقوب التي تراكمت في العباء السلفية، إلى أن الدعوة السلفية وقعت في حالة إرباك وتردد شديدين، إذ إن الشيوخ لم يعتقدوا البتة بأن التغيير يمكن أن يولد من رحم السياسة، ولذا، نددوا بالحدث، أي حدث الثورة، في البداية، بوصفه “فتنة”، وحرضوا أتباعهم على عدم الانخراط في الاحتجاجات، والحال أن الدعوة لم تلتحق بمطالب التغيير إلا قبل أيام قليلة من سقوط الرئيس السابق حسني مبارك.

وكما حدث مع جماعة الإخوان، شهدت الدعوة السلفية محاولات للخروج على طاعة القيادات وتململ من القواعد للاستجابة لحركة الشارع وسيولتها، وكان من بين الذين وجهوا تلك الانتقادات، كما يشير لاكروا، الدكتور عماد عبد الغفور، وهو طبيب لعب دوراً حاسماً في تأسيس الدعوة السلفية، في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وبعد أيام قليلة من تنحية مبارك، قرر عبد الغفور الذي أكد بأنه كان من أوائل الداعمين للثورة، أن في الأفق حقبة ثورية جديدة، ما يحتم على السلفيين أن يكون لديهم حزبهم السياسي الخاص، كي يكون لهم دور في عملية الانتقال، وبالتالي، دأب على مقابلة الشيوخ الواحد تلو الآخر، وأقنعهم في نهاية المطاف بالسماح بتشكيل حزب النور السلفي.

ومن ثم، فإن من أكبر المفاجآت في حقبة مابعد الثورة، في مصر، لم يكن الفوز الانتخابي لجماعة الإخوان المسلمين، فهذا ماتوقعه الكثيرون، إنما بروز حزب النور السلفي، الذي تأسس في صيف العام ذاته، كمنافس قوي للإخوان، باعتباره ثاني أكبر حزب في البرلمان.

ويقول لاكروا: “صحيح أن الشيوخ السلفيين الذين يقفون وراء الحزب، ينتمون إلى جماعة دينية تدعى الدعوة السلفية، لها مواقف دينية شديدة ضد الجماعات، غير السلفية، على غرار الصوفيين والشيعة أو المسيحيين، كذلك الأحزاب السياسية المنافسة لهم، بما في ذلك الليبراليين والإخوان. إلا أن الحزب طور موقفاً غاية في البراغماتية إزاء العمل السياسي، حيث تحالف مع مجموعات وأحزاب لا تشاطره الأيديولوجيا الدينية”.

مفهوم السلفية المعاصرة، يبرز نظاما معرفيا خاصا قوامه منهج أهل السنة والجماعة، وتبني الأصول المتمثلة في الكتاب والسنة، بفهم سلف الأمة وهو ما يوفر لها العصمة والقداسة، وبالتالي، ليست السلفية هنا بأدبياتها وأفكارها، منتج بشري يمكن تغييره وتعديله، لكنه، الإسلام النموذج والمثال في حالته القصوى وتحققه الكامل في صورته السليمة والتامة النقية كما أرادها النبي وأصحابه، حسبما يسعى التيار السلفي تقديمه، والضغط على صورة المتخيل الديني لجهة فرض حضوره وتعميمه في الوجدان الديني الشعبي. وهو ما يمكن أن نرصده بسهولة في كتابات محمد نصر الدين الألباني الذي اعتبرأن “الانتساب إلى السلفية يعني الانتساب إلى العصمة”. والألباني قد تمكن من بلورة مفهوم السلفية وتصديره نسخته التي ستضحى معتمدة لدى غالبية الشيوخ السلفيين في العواصم العربية والإسلامية، بعد ما ثارت ضده معركة حول تحديد المفهوم وآلياته من تلامذته، وكان أحد أطرافها، الشيخ البوطي في سوريا، الذي اشتهر بمقولته: “السلفية فترة زمنية مباركة لا يجوز احتكارها، من قبل جماعة المسلمين دون غيرهم”. فيما انتصر الألباني وساد مذهبه السلفي نواحي العالم الإسلامي والعربي والذي ترافق مع صعود المؤسسة الدينية الرسمية ودعم شيوخها وأئمتها كابن باز والعثيميين.

وثمة حضور لافت داخل بنية الخطاب السلفي الذي يقوم على مقولة “الفرقة الناجية”، في استعارة مباشرة لما ورد في مدونة الحديث النبوي، للعنف الرمزي الذي يجعل من كل مسلم سلفي بالضرورة حتى يصح إسلامه. وحول مفهوم الجماعة المسلمة الذي يركز عليه ويتبناه السلفيون، تظل مسألة التنظيم وكمونه في العقل السلفي أمراً مغرياً وذات وجاهة، خاصة أن المكونات السياسية قائمة لديها لتحقيق “أسلمة المجتمع”.

كما أن المكون السلفي في البيئة المصرية تردد بقوة لدى جماعة أنصار السنة المحمدية، ومؤسسها محمد حامد الفقي، وهو أول من نقل رموز السلفية الوهابية إلى مصر، وانتمى لهم الشيخ محمد إسماعيل المقدم، أحد أبرز مؤسسي المدرسة السلفية بالاسكندرية، والتي شكلت مصدراً مهماً مع المكتبة السلفية التي يملكها محب الدين الخطيب في القاهرة، والتي نهل منه شباب الجماعة الاسلامية علمهم ومعرفتهم بالادبيات السلفية التي بدؤوا في دراستها للتعرف على أفكارها، وتسببت بعد ذلك في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، في ظهور عدد من الإشكاليات منها علاقة الرجل بالمرأة والفصل بين الجنسيين في الجامعة، وفرض مسألة الحجاب وتحريم وحظر الأغاني والموسيقى والامر ذاته في الأدب وتكفير المبدعين، وصولاً لكرة القدم، وتشديدهم على مسألة “الهدي الظاهر” في فرض نمط من اللبس، وقد اعتبروه بمثابة اقتداء بالسنة وأقوال الرسول والتزام بما كان عليه السلف الصالح.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة