كريم فرحات
بعد فترة وجيزة من صعود آية الله الخميني للحكم في إيران، وتدشين الجهورية الإسلامية، كانت الساحة السياسية الايرانية تشهد نمواً كبيراً للأحزاب السياسية والمنظمات، حسبما توضح الباحثة فاطمة الصمادي في كتابها: التيارات السياسية في إيران"؛ إذ يمكن القول إن القوى السياسية في تلك الفترة كانت تقوم على محورين سياسيين هما اليمين واليسار، الديني والعلماني.وبصورة ما يمكن حصر أربع كتل من القوى والأحزاب السياسية في الأعوام التي تلت الثورة: الأحزاب غير الليبرالية، والأصولية التابعة لرجال الدين، الأحزاب الليبرالية والعلمانية، الجماعات الاسلامية الراديكالية، والقوى المؤيدة للاشتراكية.
ففي تلك اللحظة التاريخية كان الاسلاميون التقليديون، وخصوصا رجال الدين المؤيدين للإمام الخميني، من بين القوى التى استطاعت استثمار حواضنها الاجتماعية، ورأسمالها الرمزي في المجتمع لجذب قطاعاتها، بهدف الحصول على الشرعية والشعبية، والحصول على السند المعنوي والجماهيري، وعبر توظيف بعض المناسبات الدينية كان يتم توصيل شعاراتها السياسية إلى الجماهير.
غير أنه قد برزت ثمة فرصة أمام القوى الإسلامية كي تكون الأقدر على مخاطبة الجماهير، وكان لطبيعة الشعارات التي تطرحها، وقدرتها على كسب الناس، أثرها في إيجاد تحالف ضمني بين قوى المعارضة التي أطاحت بالشاه، بينما عمد الخميني إلى عدم التركيز على تأليف حكومة دينية في تلك اللحظة، وإنما ركز شعاراته وخطابه السياسي على إيجاد عقيدة مرحلية ضد الشاه وأولوية قصوى لمواجهة هذا الأمر الذي مهد مرحلياً لبناء التحالفات بين مختلف المجموعات حتى المتخاصمة منها.
وتأسس مجلس الثورة في باريس بقرار من الخميني، وعين سلطاته وموعد انعقاده بينما صاغ الخطوط السياسية الرئيسية والاهداف العامة التي ستنطلق اليها وتسعى نحو تحقيقها واتمامها، كان الخميني صاحب الكلمة الاخيرة في الاجراءات التكتيكية والاستراتيجية المتخذة كما فعل أثناء وضع أسس الدستور، والمحاكم الثورية، وتعيين القضاة بنفسه، ومنح المحاكم سلطات مطلقة.
مطلع عام 1988 أعلن الخميني أن للدولة الاسلامية الحق في أن تتجاهل التعاليم الاسلامية، عندما تمرر القرارات وتسن القوانين، وأن المبدأ الوحيد الذي ينبغي إتباعه هو الذي يكون صالح استمرار النظام الحاكم. وفي المرسوم ذاته، أشار الخميني أن قرار الحكومة مستنبط من السيادة المطلقة لنبي الله، وأن ذلك أحكام إلهية، حتى ولو أن ثمة اجراء في مصلحة الدولة، سيؤول إلى أن يلغي كل التعاليم الإسلامية الاخرى حتى الصلاة والصيام والحج.
كما دشن الخميني هيئة تتولي تقويم ما هو في مصلحة الدولة، وقد انتخب هو نفسه أعضاء هذا المجلس، وكذلك حدد مهماتهم وصلاحياتهم وأعطى مجمع التشخيص سلطة اتخاذ القرار النهائي في المسائل المتنازع بشأنها، وبالإضافة إلى ذلك فقد امتلك المجلس الجديد الإذن، بهدف سن التشريع بمبادرة منه بمعزل عن البرلمان ومجلس صيانة الدستور، وفق أصغر شيرازي، في كتابه السياسة والدولة في إيران، حيث لم يكن في دستور الجمهورية الإسلامية أي نص يشير على مجمع كهذا، ولكنه كان بلورة لمبدأ حصر الحكم عند الفقهاء ورجال الدين، وكان يمثل ذلك حينها الخميني.
ومن ثم، كانت نظرية ولاية الفقيه في نسختها الخمينية تمثل صورة مطلقة، تتبلور في كونالخميني أو من يخلفه في منصبه، كمرشد للثورة الإسلامية في إيران، هو المسؤول عن كافة المسلمين في العالم، وطاعته واجبة كطاعة الإمام المهدي المنتظر، باعتباره نائبه، ولا يتم تعيين الولي الفقيه عن طريق الانتخابات من قبل الشعب، بل ينتخب من قبل نخبة من الفقهاء، بدرجة آيات الله أي الخبراء، وقال الخميني أن الأدلة التي تدل على وجوب الإمامة هي نفس الأدلة التي تدل على وجوب ولاية الفقيه، وأنها من الأمور الاعتبارية العقلانية، وذلك كجعل القيم للصغار، وأن القيم على الأمة لا يختلف عن القيم على الصغار من ناحية الوظيفة، ويمنح الخميني صلاحيات واسعة للولي الفقيه، فيرى أن حكومة ولاية الفقيه هي شعبة من ولاية رسول الله المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام، ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج. فالولي الفقيه فوق الدستور، والقوانين الوضعية، وقراراته تعتبر قوانين إلهية واجبة التنفيذ.
وعليه، نجد في جمهورية إيران الإسلامية، ورغم وجود رئيس جمهورية، ومجلس برلمان منتخبين من قبل الشعب، غير أن هؤلاء ليسوا صناع القرارات السياسية المهمة الحقيقيين، بينما أي قرار يتخذه رئيس الجمهورية، أو قانون يصدره البرلمان لا يمكن وضعه موضع التنفيذ إلا بعد أن يوافق عليه الولي الفقيه، ومجلس حماية الدستور الذي هو الآخر غير منتخب من قبل الشعب، ووظيفته اختيار المرشحين لخوض الانتخابات الرئاسية والنيابية، ومن صلاحياته منع أي مرشح من الترشيح، إذا شك في ولائه للولي الفقيه.
ساهمت سياسة الإقصاء والتهميش في طهران في تفاقم أزمة التنوع الهوياتي القومي والديني والإثني والعراقي، وتحول التعايش إلى تنبابذ وصراع، بينما تشكلت جيتوهات مغلقة، فالواقع من الناحيتين السياسية والتنموية في طهران تحت وطأة الملالييبرز أن الأقليات والمناطق التي تقطن بها تعاني من شتى عوامل الإهمال المتعمد، والتعسف الأمني والخدمي والتنموي، حيث تعتبر من أفقر المناطق الإيرانية وأشدها تخلفًا، كما أن نسبة البطالة في هذه المناطق مقارنة أيضًا بالمناطق الأخرى هي الأعلى نسبة، ومعدل التنمية الاقتصادية هو الأدنى، بالنسبة لبقية المناطق الإيرانية، الأمر الذي يؤدي إلى بروز حالات مقاومة، تتشكل على تخوم ذلك القمع والإفقار
المتواصلين، وفقدان أي تمثيل مجتعمي وسياسي لهم، والذي يعمق من حالات العزلة والنبذ، ما يدفع تلك الأقليات إلى تشكيل حركات انفصالية ومسلحة، للدفاع عن ميراثها الثقافي وحقوقها التاريخية كما يجري مع قومية البلوش.
وفي ظل تأميم المجال العام من قبل رجال الدينونفذهم كطبقة يمتد نشاطها وهيمنتها من السياسة للاقتصاد مروراً بالإعلام والثقافة وحتى القطاع العسكري، لم يقف أمام قطاعات واسعة من المواطنين من المشاركة السياسية والمجتمعية وحسب، بل إنه حرض مجموعات للتمرد والثورة كما جرى عبر صدامات عنيفة مع الدولة في فترات تاريخية عديدة ومتفاوتة، تحديداً في الثمانينيات فيما يعرف بثورة الأقليات، وكذا الاحتجاجات الأخرى عام 1999، ثم2009، واحتجاجات 2017، ناهيك عن التظاهراتالفئوية المتنامية على مدار الأعوام الأخيرة، خاصةفي المناطق المهمشة، والتي تعكس قضايا حقوقية تتصل بالمرأة، والأقليات الدينية والقومية، والعمال والطلاب، وسائقي الشاحنات، والمعلمين، وأزمة المزارعين في أصفهان.
ومع الضغط الخشن والسلطوى للقيم الدينيةوتسييسها في قلب المجتمع، وتمرير خطاب ثقافيعام وتقليدي بالتوازني مع نمط إنتاج تنموي رعائي تمييزي، فقد نجم عن ذلك تباين هائل بين النخبة السياسية التي تحكم وبقية قطاعات المجتمع الذي لم يعد بينهما ثمة تجانس، الأمر الذي شكل فجوة عميقة في بنية الدولة.