مظلومية ٦ إبريل

محمد السعيد

تُوجه إلينا التهم كل حين بالعمالة والتخوين وتلقي أموال من الخارج، واستخدامها فيما يضر بمصلحة الأمن القومي، هذا المصطلح الفضفاض الذي يتيح للنظام اتهام وتخوين وتشويه من يشاء.

كان عام ٢٠٠٤ بداية حراك الشباب وبحثهم عن مكان يؤمن بهم ويحتوي أفكارهم، بداية بحركة “كفاية”، ومرورًا بتأسيس “شباب من أجل التغيير”، ليكون الشباب بعيدًا عن تحكم كبار السن والمُنظِّرين، وكانت النقطة الفارقة في الحياة السياسية لهؤلاء الشباب هي حركة “٦ إبريل”، هذه المحطة الهامة التي أثرت في أغلبهم، سواء ليبرالي أو يساري أو إسلامي، أو غير منتمي لأي تيار سياسي، فكانت محطة وقف العديد عندها، واستفادوا وتأثروا منها، برغم المشاكل والصعوبات التي أحاطت بها منذ إعلان تأسيسها، والاتهامات التي وجهت إليها، بعد تمكنها من استقطاب عدد كبير من الشباب، ليكونوا هم النواة التي تحرك كل ما هو ساكن في المجتمع.

ابتدى زخم المشاركة السياسية والمجتمعية من دعوات إضراب إبريل ٢٠٠٨، وما تبعها من إضرابات ومظاهرات ووقفات واحتجاجات حتى نهاية عام ٢٠١٤، وكان البعض يؤمن أن هناك من يساندنا ولكن في الخفاء، وكنا متأكدين من وجود صراع أجهزة داخل الدولة، لفرض وبسط السيطرة بشكل كامل.

كان إضراب ٢٠٠٨ بمثابة الانطلاقة الحقيقية للحركة التي دعت للإضراب والعصيان المدني، بالمشاركة مع بعض القوى والأحزاب السياسية المصرية، احتجاجًا على تدهور الأوضاع المعيشية، وكانت الاستجابة غير متوقعة للنظام الذي تفاجأ بالقدرة على الحشد والاستجابة الكبيرة، حتي أن معظم الطلبة امتنعوا عن الذهاب للجامعات والمدارس، كما خلت المصالح الحكومية من الموظفين والمواطنين بشكل ملحوظ، وتَوَّج هذا اليوم عمال مصانع غزل المحلة، الذين أسقطوا صور مبارك، واستطاعوا الصمود أمام قنابل وهراوات الأمن المركزي.

هناك إيمان واعتقاد راسخ لحركة “٦ إبريل” والشباب القائمين عليها بأن لكل طيف من الأطياف الموجودة داخل المجتمع الحق في رسم النظام السياسي العادل وتقرير سلطة الدولة والمشاركة في الحكم وتفعيل دور المجتمع المدني للرقابة علي الدولة ومشاركتها في اتخاذ القرارات، لكونها الأقرب إلى المواطنين، وعلى دراية بما يحقق النفع لهم. ومن هذه النقطة نجد أننا نعيش في ظل استبداد سلطوي يتحول تدريجيًّا وبخطى منتظمة إلى نظام شمولي ترعاه المصالح والأهواء، ويهمش دور المواطنون الذين يؤمنون بالمشاركة ووجود تمثيل لهم حتى وإن كانوا أقلية.

ومنذ أن فوض الرئيس السابق محمد حسني مبارك السلطة إلى المجلس العسكري في فبراير ٢٠١١، بدأت جميع الأطراف في مصر التنازع والسعي لفرض سيطرتها، حتى أدركوا أنهم أمام قوتين لا يمكن الاستهانة بهم، وهما المجلس العسكري الذي في يده مقاليد الحكم الأساسية والرئيسية والفعلية، والقوى الإسلامية، فما كان من القوى المدنية إلا البحث إما عن الفصيل الذي يحقق لهم الحد الأدني من التمثيل والمشاركة، أو الطرف الأقوى الذي ستكون له السيطرة ومحاولة اغتنام ما يمكن اغتنامه، بينما كانت حركة “٦ إبريل” هي الوحيدة التي رأت أن للشعب المصري كله، خاصة الشباب منهم، الحق في اختيار ممثليهم وتقرير مستقبلهم ومستقبل بلدهم، في الوقت الذي حاولت فيه بعض الأحزاب والحركات السياسية الأخرى القضاء على الحركة ومؤسسيها والقائمين عليها والمنتمين لها.

ومنذ اكتمال ذلك المشهد، بدأنا في البحث عن التوازن بين مشروع الدولة المدنية وبين الحقوق المجتمعية التي نادت بها ثورة يناير، وبسبب انقسام المشهد النخبوي انتقل التناحر والخلاف إلي الميادين، فأصبح كل ميدان له من يمثله وما يدعوا إليه. كانت هذه هي نقطة النهاية لمشروع الدولة المدنية والتأسيس لنظام مدني تقوم عليه الدولة، في ظل مرحلة حكم وتحكم المجلس العسكري المصري وقيادته لمقاليد الأمور، خلال فترة متوترة وغير متوازنة، وفي الوقت الذي حملت فيه قراراتهم الكثير من الأخطاء، رأى البعض أنها حمت مصر من الانهيار، بينما رأى البعض الأخر أنها أرست مزيدا من التوتر والتناحر بين الأطراف، وكانت هي في الحقيقة خطة لاسترداد ما سُلب منهم.

خلال هذا الوقت، كنا نرى أن القوى الإسلامية علي وفاق مع المجلس العسكري وقراراته، حتى جاء بيان المجلس العسكري رقم “البيان ٦٩”، والذي حمل هجومًا واتهامات صريحة لحركة “٦ إبريل” بالتخوين والعمالة – بدون دليل إلي الآن- لإدراكهم أنها المحرك الأساسي للشباب والقوى الثورية، وأصبحت الحركة منذ ذاك الوقت في مواجهة شرسة وعلنية مع القائمين على الدولة، بسبب قدرتها على الحشد والتحرك أمام قوة وقمع وسلطة الدولة، وأكد رد الحركة على بيان المجلس العسكري أن لها معتقدات راسخة لا يمكن التنازل عنها بأي حال من الأحوال، وأنها كانت وستظل منفصلة عن أي فصيل سياسي، وأن ما يحركها فقط هو إيمانها بمبادئها التي تدعو إلى المشاركة والعدل والحرية والتمثيل الديمقراطي والسياسي.

وأمام هذه الأزمة، ما كان من بعض الأطراف إلا محاولة اختراق الحركة من الداخل وتقسيمها، ونجحت بالفعل في ما سعت إليه، حيث تمكنت من إغراء بعض المنتمين للحركة بمكاسب ومناصب.

كانت النتيجة غير مُرضية للشباب الذي شارك في الثورة، وأدركوا أن ثورتهم لم تُسقط النظام القديم، بل كشفت عن وجود قوى مستترة طوال عقود في ظلِّه، وبينما كانت المطالب الأساسية تأسيس دولة عادلة ذات نظام مدني، لم نستطع الاستقرار على قواعد ديمقراطية واضحة، نتيجة لتنازع الأطراف على السلطة، والنخب على استقطاب من يمكن استقطابهم، والضغط بهم على الأطراف الأخرى، فضلًا عن استغلال مجموعة من الشباب للحراك ومطالبه ليفاوضوا بها الأطراف المختلفة.

ثم جاءت مرحلة الرئيس المخلوع محمد مرسي، وتحكم وانفراد جماعته بالسلطة والتشريع، وخلال فترة رئاسته ولِد دستور جديد مشوه من رحم القوى الإسلامية، دستور يؤجج الخلاف بين مفهوم الدين والدولة، وبين الشباب الداعي لدولة مدنية والنخب والقوى الحاكمة وتعاونها مع المجلس العسكري، لتقويض الحركات الداعية إلى المشاركة العادلة، وتأسيس نظام مدني، بعيدًا عن سيطرة وتحكم الدين والقوى العسكرية.

عندما استلم الإخوان المسلمون السلطة من المجلس العسكري بدأ الطرفان في حساب خسائرهم، ووجدوا أنهم خسروا الكثير من أرصدتهم وقوتهم وشعبيتهم ومكانتهم بسبب عاداتهم السلطوية، وضعف خبراتهم في التعامل مع التنوع الفكري ومع من يقفون خارج دوائرهم الضيقة، فبدأ كل طرف منهم في تهميش الآخر واللعب منفردًا، وبالطبع نجح المجلس العسكري في القضاء علي فترة انفراد وتحكم الإخوان بالسلطة، بعدما خاطب المدنيون الذين أبعدهم من قبل وأخبرهم أن الدولة لن تكون مدنية عادلة في ظل وجود القوى الإسلامية.

استمر هذا الصراع إلي الوقت الذي كشف فيه مرسي عن “الإعلان الدستوري المكمل”، ما رفضته الحركة التي قادت تظاهرات أمام قصر الاتحادية تحت شعار “قاتل.. قاتل”، مؤكدة أن استمرار الوضع على ما هو عليه سيؤدي إلى مزيد من الفوضى، وطالبت مؤسسة الرئاسة وجماعة الإخوان المسلمين بإدراك خطورة الموقف، لكن صناع القرار لم يدركوها، وكان المستفيد الحقيقي هو المجلس العسكري الذي استلم مقاليد الأمور، قبل أن يُسلمها إلى رئيس المحكمة الدستورية المستشار عدلي منصور، بعد نجاح تظاهرات ٣٠ يونيو وخلع مرسي.

شاركت حركة “٦ إبريل” في جمع التوقيعات للنزول يوم ٣٠، وعقدت موتمرًا مشتركًا مع حركة “تمرد” قالت فيه إن الحركة ملتزمة الطرق السلمية التي أبهرت العالم خلال ثورة يناير، كما أدانت شتى أعمال العنف والتخريب والتهميش باسم الثورة، داعية الجميع إلى إعلاء مصلحة الوطن.

كل ما نطلبه الآن هو إعلاء قيم الديمقراطية والتسامح، وتفعيل بنود الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، التي أعلن عنها الرئيس عبد الفتاح السيسي، وقد رأينا بوادر من هذه التكليفات، وتم الإفراج عن عدد من مسلوبي الحرية. كل ما نريده هو أن نكون نسيجًا واحدًا، لا تفرقنا أيديولوجيات، ولا يكون وسطنا من يتهمنا بالخيانة افتراء وزورًا.

إن حق التعبير وحرية تكوين الأحزاب وحرية عمل المجتمع المدني لن يكونوا أسبابًا لإضعاف الدولة أو الرئيس، بل سيمثلوا دعمًا له في المواقف التي تحتاج ظهيرًا وطنيَّا حقيقيًّا ومؤثرًّا يستند عليه، هذا ما كنا ننادي به منذ سنوات، وهذا ما أيقن صانعوا القرار أخيرًا أنه ما كان يفترض أن يحدث منذ سنوات، ولكن أن تأتي متأخرًّا خير من أن لا تأتي أبدًا.

نتمنى ألا تكون الاستراتيجية مجرد حبر على ورق، أو لجان مهتمة بتصدير الصورة للخارج فقط، فنحن لا نهتم بالخارج بقدر ما نهتم ببلادنا، وأن نسير في ركب الدول الديمقراطية.

تزداد فكرة الدولة المدنية الديمقراطية حضورًا الآن في مصر بفضل شباب لم يسمع بهم أحد، وبفضل جهود مبذولة من قبل ٢٥ يناير ٢٠١١ بسنوات، ومرورًا ب ٣٠ يونيو وتجربة حكم الإخوان المسلمين، ويتغير شكل المجتمع المصري كما لم يتغير أبدًا. لقد قطعنا شوطًا طويلًا منذ ٢٥ إلي الآن، وأمامنا الكثير لتحقيقه خلال الفترة المقبلة، لأننا قبلنا أن نعيش مخاطر الانتقال العسير إلى الدولة المدنية الديمقراطية التي نريدها.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة