شقة مفروشة لا دولة! (1/2)

عماد بزي

يوم وضعت الحرب الأهلية اللبنانية أوزارها برعاية دولية وعربية، اعتقد الجميع أن البلد سيصعد من قعر الهاوية ليعود إلى مكانته على ساحل المتوسط، وسينفض عنه غبار خمسة عشر عامًا مأساوية عُمِّدت بالدم والحديد والنار، وأن السلم المستجد سيتيح للبنانيين أخيرًا أن يعبروا إلى دولة قوية، متينة، يحكمها القانون والمؤسسات، لكن الصورة التي رسمناها لما ظننا جميعًا أنه “مصالحة وطنية” تبين أنها لم تكن إلا إتفاقًا أفضى إلى ترسيم أمراء الحرب المنتصرين منهم والمنهزمين كحكام أبديين لبقعة جغرافية تنوء تحت ثقل غياب الموارد ومقومات البقاء، أما هؤلاء الحكام القدم/الجدد فقد خلعوا عنهم بذلات الحرب المموهة ليرتدوا ربطات عنق، وتركوا محاور السلاح ليتسلموا محاور الفساد المقنن على هيئة نواب ووزراء وزعماء سياسيين.

أصبحت لبنان بعد الحرب أشبه بشقة مفروشة للإيجار، بإدارة سيئة، الداخل داخل والخارج خارج، دون أي تصليحات أو تنظيفات، وعندما استجد السِلم في بداية التسعينيات، غابت كافة مظاهر العدالة الانتقالية وما تتضمنه من مصالحة ومصارحة وجبر للضرر ولجان للحقيقة، وتعين على اللبنانيين أن يتكيفوا مع إرث الماضي من دون معرفة ما حدث، ومن دون أدنى محاسبة للجناة الذين أضحوا من المقدسات، ولهم جماهير مستعدة للقتل عند أي انتقاد، وسُلِّمت إدارة “الشقة المفروشة” ل”البعث السوري” وحافظ الأسد، ثمنً لمساهمته مع الأمريكيين في حرب العراق، ليدير فيها أبشع أنواع الفساد والمحسوبيات، أما السعوديين فاستثمروا في رفيق الحريري، وباتت المملكة راعية للطائفة السُنيَّة، فيما دخل الإيرانيون بدورهم إلى النسيج اللبناني عبر” حزب الله”كرعاة للطائفة الشيعية، في الوقت الذي بقيت فيه الطوائف المسيحية تحت جناح “الأم الحنون” فرنسا، كما وصفها “ديغول” يومًا.

كان لابد لهذه التركيبة المعقدة- المعتمدة في وجودها على الولاءات الخارجية – أن تفضي الى صراعات داخلية، أدارها الاحتلال العسكري والسياسي السوري للبنان، فشهد البلد حالة قمعية لا تحتمل. وإلى جانب المغالاة في تمجيد الدور السوري، أشاع الخطاب السياسي اللبناني للعالم زورًا وبهتانًا أن لبنان واحة للحريات، بينما كانت الحرية في الحقيقة مجتمعية، لا سياسية، حرية تحركها لعبة جيوسياسية، ولم تكن يومًا أبدًا حرية صحافة أو حرية تعبير.

احتاج لبنان إلى المال ليعيد بناء ما هدمته الحرب، فجاء رفيق الحريري بأمواله وعلاقاته وسيل الاستدانة من الخارج، والدعم الخليجي اللامحدود، والاعتماد المطلق على الخدمات والنظام المصرفي اللبناني، ما كان يحدث تحت الأنظار السورية، وبإدارة ضباط مخابرات “آل الأسد”، فيصدرون هم الأوامر بتمرير المشاريع والقوانين، وفقًا للمبالغ والحصص التي قبضوها ثمنًا لقبولهم، وثمنًا لاستزلام وارتهان السياسيين والمقاولين، في تشابه جديد مع الشعب المظلوم في سوريا.

الطبقة السياسية اللبنانية الجديدة التي تموضعت في مواقع القرار أعتمها الفساد، ونهشت الدولة وأموالها ومقدراتها حرفيًا، وأدخلت موظفيها إلى الوزارات والهيئات والمجالس ومن دون حسبان تحت مسميات محاربة العدو الصهيوني واسترجاع كرامة الطائفة!!

ماليًا، كان لبنان تحت رحمة البنوك المحلية، تشتري ديون البلاد بأبخس الفوائد، لتعيدها بفوائد عالية، فغاب الاستثمار وغابت التنمية، فلِم تعمل وبإمكانك أن تضع أموالك في البنوك التي ستغطي بها ديون الدولة وتعود عليك بفوائد خيالية؟

من أموال اللبنانيين في البنوك جرى تمويل استدانة البلاد لما يقارب مائة مليار دولار، صرف الفتات منها على التنمية والإعمار، وذهب السواد الأعظم إلى جيوب أمراء الحرب والطوائف.

كان معروفًا أن نهاية هذا النظام الريعي ستكون كارثية، وأن البنوك التي يملكها هؤلاء بأشخاصهم أو عبر أزلامهم ستنهار عاجلًا أم آجلًا، ومعها ستنهار البلاد على من فيها، وستسحق تحتها شعبًا كل ذنبه أن صدق رواية زائفة عن عظمة وهمية أشبه بالسردية النازية عن التفوق والتمايز عن سائر العرب.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة