أقسم لك إن هذه أول مرة قلمي يقف عاجزاً عن التعبيرعما يدوربداخلي من مشاعر متضاربة فأنا منذ فترة أحاول الكتابة إليك، ولكن قلمي على عكس عادته لم يستطع التملص من الأصفاد التي تكبله إلا مؤخراً، ولاتسألني كيف أستطاع التخلص من هذه الأصفاد لأني لاأعرف كيف وإن كنت أرجح أن الشجن الذي أستبد بقلبي كان له مفعول السحر في فرار قلمي من هذه الأصفاد مع العلم أن هذا لم يكن كافياً على الإطلاق للكتابة إليك، فإن كان قلمي تمكن من أسترجاع حريته فإنه كان لايعرف من أين يبدأ، فالكتابة إليك لم تكن يسيرة على الإطلاق ولا أعلم لماذا؟ هل يرجع ذلك إلى معرفتي بك التي توطدت من أول يوم ألتقيت فيه بك؟ أم يرجع ذلك إلى الخوف الذي ضرب أطنابه في أرجاء المجتمع وتسلل تدريجياً إلى قلبي؟
لذا فأسترك لقلبي مهمة الكتابة إليك لأني على ثقة في انه سيستطيع أن يكسر صمتي الذي ألقى بظلاله على قلمي، فإن كان العقل هوالذي يكتنزالذكريات التي عشتها معك فإن قلبي هو الذي تذوق السعادة الغامرة عندما تعرفت عليك في أول مرة ألتقيت بك في باحة المحكمة عندما كنت جالس على إحدى الدكك الخشبية الموجودة بها بجوار الأستاذ محمد رمضان الذي أتاح فرصة التدريب لطالب كان مازال في الفرقة الثالثة، وذلك بعدما أومأ إليك قائلاً: (عمرو نوهان..محامي في المكتب) وذلك قبل أن تنفرج أساريرك وأنت تقول ليّ: (أحنا هنبقى أخوات مش أصحاب) بعد أن قولت لك: (إن شاء الله هنبقى أصحاب)، وهوالذي تذوق مرارة تقريعك وأنت تقول ليّ: (عايز تطبطب عليها طبطب عليها بشغلك) عندما كنت في طريقي إلى التربيت على كتف والدة أحد المعتقلين -بعدما أخذ الأنكسار منها مأخذه- لعلي أستطيع تطيب خاطرها، وهو أيضاً الذي تذوق الآلام -التي شغلت حيزكبير من الآلام المتراكمة في قلبي- وذلك بعدما تم أحتجازك وأنت كنت في مهمة إنسانية ترمي إلى توصيل إعاشة للصحافية عبير الصفتي التي كانت – آنذاك- محتجزة في قسم كرموز بمحافظة الأسكندرية.
هل قيامك بعمل إنساني كهذا مبررلإحتجازك مرة أخرى في زنزانة قضيت فيها - أو في زنزانة أخرى على شاكلتها- ثلاث سنوات بعدما تم الحكم عليك من قبل محكمة عسكرية على خلفية أتهامك بإهانة رئيس الجمهورية؟ هذا هو التساؤل المسيطر عليّ ذهني منذ أحتجازك ولكني لا أجد له ثمة إجابة وفي حقيقة الأمر أنا لا أريد إجابات هلامية ولكني أريد مبررقوى يتكأ عليه قرار سلب حريتك مرة أخرى، وأنت لم تفق بعد من وطأة الثلاث سنوات السابقة.
أعلم أن قسمات وجهك ستنقبض وأنت تقرأ هذه السطور وذلك قبل أنت تباغتني بهذه الأسئلة: أنسيت القيم الطوباوية التي تروج لها؟ أنسيت أن الدفاع عن ما نؤمن به من قيم له ضريبة وينبغي علينا دفعها؟ أنسيت أن امتهاننا مهنة المحاماة كرسالة لإعلاء كلمة الحق له ضريبة وينبغي علينا دفعها؟ أنسيت أن ما قمت به هو أمر محل للفخر وليس محل للندم بل ينبغي تجشم تبعاته برباطة جأش؟ أنسيت أني لست أفضل من أستاذنا محمد رمضان الذي له باع طويل في الدفاع عن ما يعتقد أنه على صواب دون أن يكترث بما يترتب على مواقفه؟ أنسيت أن أستاذ محمد رمضان الذي - أنت نفسك- لهثت ورائه لفترة ليست بالقصيرة لكي تظفر بفرصة للتدريب معه شبه زاهد في هذه الدنيا ولا يريد منها إلا كفكفة دموع المقهورين وسد رمق الفقراء والمهمشين؟ فلماذا الآن- بقصد أو بدون قصد- تريدني أن أعيد النظر في مقتضيات رسالتي؟
لن أفر من هذه التساؤلات، ولن أدعي البلاهة وأتماهي مع الردود التقليدية التي تتقهقر فيها اللافتات التي تحمل الشعارات الطوباوية لكي تفسح المجال للشعارات المناوئة لفطرتنا الإنسانية والتي تبث في نفوسنا التخاذل والتسليم بالأمرالواقع وتحثنا على طأطأة رؤوسنا لكل ذي سلطان وإشاحة وجوهنا عن الخطأ بحجة أنه منتشر فكما قال المهاتما غاندي (لا يصبح الخطأ على وجه حق بسبب تضاعف الانتشار، و لا تصبح الحقيقة خطأ لأن لا أحد يراها)، ولكن ما أراه عن كثب يجعلني في بعض الأحيان أشك فيما نقوله وفيما نفعله، فهل القيم التي يدافع عنها أستاذ رمضان تستحق تضحيته بالأستقرارالذي من المفترض أن يترعرع بين أروقته أبنائه (بيبرس وجومانة وماهينور)؟ هل القيم التي يدافع عنها الأستاذ رمضان تستحق حرمان والدته – عليها رحمة الله- من أن تحقق الأمنية الوحيدة لها قبل أن تلقى وجه رب كريم؟ هل القيم التي يدافع عنها الأستاذ رمضان تستحق حرمانه من أن يحقق لوالدته أمنيتها أو على الأقل من أن يشهد جنازتها ويتقبل عزائها ويشد أزرأخته ؟هل كلماتك أنت ومواقفك التي تعتقد أنها تنصرالحق تستحق أن تضحي لأجلها بحريتك أوأن تحرم أنت الآخر من أن تشهد جنازة أخيك – عليه رحمة الله- وهذا ماحدث بالفعل بعدما وافته المنية خلال الثلاث السنوات التي كنت فيها قابع في غياهب السجون؟
للأسف يا صديقي بدون قصد أنزلقت في خانات الديالكتيكة، وأنا أعلم جيداً أن خفة ظلك دائماً ما تحول بين المناقشات التي تدور بيني وبينك وبين الوصول لهذه النقطة، ولكن بما أن الحوار من جانب أحادي فينبغي عليك أن تتحمل هذا دون تأفف وبدون أن تقول ليّ بإبتسامة ناصعة (خلاص عبرت عن نفسك) من جهة، كما ينبغي عليّ مراعاة أحادية الحوار من جهة أخرى، فكيما أتوق إلى مناقشتك أتوق أيضاَ إلى رؤية قسمات وجهك التي تأخذ موضع المتذمر قبل أن تنبسط في لحظة واحدة لتأخذ موضع الممازح المهذار، كما أتمنى أن أحتجازك في هذه المرة لا يسلب منك خفة الظل التي تواجه بها الأنتهاكات التي تتعرض لها والتي تحول دائماً بينك وبين محاولتهم لإكسارك والتي لا تختلف كثيراًعن المحاولات التي يتعرض إليها صديقك – خفيف الظل- شادي أبوزيد.
لن أخيب ظنك هذه المرة فأنت في كل مرة كنت تقرأ فيها ليّ كنت تبرز نقصية في كتاباتي، وهي أفتقادها لحصافة الختام؛ لذا أتركك الآن مع كلمات الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم: (ممنوع من السفر...ممنوع من الغنا...ممنوع من الكلام...ممنوع من الاشتياق...ممنوع من الاستياء...ممنوع من الابتسام...وكل يوم في حبِّك تزيد الممنوعات...وكل يوم بحبك...أكتر من اللى فات)